الإبادة البيئية والمقاومة الخضراء
رزان زعيتر
فرنسا ومسؤوليتها عن تطبيق القانون الدولي في فلسطين
مقر مجلس الشيوخ الفرنسي – قصر لكسمبورغ
باريس - فرنسا، 4 أيار 2024
يشرفني عظيم الشرف أن تتاح لي هذه الفرصة لمخاطبة جمعكم الكريم اليوم. وأعرب عن عميق تقديري للسيناتور ريموند بونسيه الذي بفضل شجاعتها تم هذا الحوار التاريخي بيننا.
اخترت قراءة خطابي للتأكد من عدم إغفال ولو فكرة واحدة عندما أحلل وأناقش الإبادة البيئية في فلسطين على مدار الـ 100 عام الماضية. وتُعرّف الإبادة البيئية بأنها التدمير الشديد الممنهج وواسع النطاق والمتعمد وطويل الأجل للبيئة والموارد الطبيعية.
أينما تجذر الاستعمار الاستيطاني في بلد ما، فإن أجندته الأساسية ستكون تدمير أو تفكيك أو تقويض الهويات الجمعية التي تعكس تراكم تاريخي وثقافي وممارسات وعادة تنعكس على الغذاء والمطبخ والتعليم والملابس وغيرها، ولكن بشكل خاص ستطال هذه الأجندة الأرض بذاتها.
في فلسطين، تلعب أشجار الزيتون ونبتة الزعتر، إلى جانب 2,500 نوع من النباتات البرية، دوراً أساسياً في شبكة معقدة من أنظمة الحياة. وتتجلى رمزيتهما العميقة في المقولة الفلسطينية الخالدة: "باقون ما بقي الزعتر والزيتون"، وفي ذلك تأكيد على الوحدة الفلسطينية مع الأرض وأنظمتها البيئية، في الحياة والمقاومة.
إن الاقتلاع الممنهج لملايين أشجار الزيتون واستبدال النباتات المحلية بأنواع أجنبية لزيادة تشويه هوية المنطقة هي عملية مستمرة بدأت مع بداية الاحتلال ومستمرة حتى يومنا هذا. وما يزيد الطين بلة هو إعادة زراعة أشجار الزيتون القديمة المسروقة في مستعمرات غير قانونية لخلق وهم بوجود المستعمرين منذ أمد طويل في فلسطين.
يتعمد الاحتلال تغيير طبيعة الأرض من خلال ضم مساحات شاسعة تحت ذريعة "المحميات الطبيعية"، وعزل الفلسطينيين في البانتوستانات، وفصلهم أيضاً عن نباتاتهم البرية المحببة التي وفرت لهم الغذاء والدواء والعلف – وهي هبة خالصة من الله عز وجل وذلك لتزين موائدهم وإشباع بطونهم ومداواة آلامهم في ظل رزوحهم تحت 100 عام من الاحتلال والعقوبات وتدمير سبل العيش.
كان لسحر هذه النباتات أثر واضح بشكل خاص في ربيع غزة الأخير المروع؛ فعلى الرغم من حمية الموت المستمرة التي فرضها المستعمر، ظهرت نباتات مثل الخبيزة من تحت أنقاض الدمار، مستجيبة لنداءات الجياع، ولو مؤقتاً.
وللمزيد من استهداف هذه الرابطة منع الاحتلال الفلسطينيين من حصاد الزعتر البري منذ عام 1976، وفي عام 2005 منع حصاد العكوب، وهو نبات فلسطيني أصلي عزيز منذ قرون مضت.
في عام 1948، فشل تدمير 530 قرية في القضاء على الصبّار المزروع، الذي يبقى شاهداً على جرائم المحتل على الرغم من المحاولات المتكررة لاقتلاعه. ومثلما لم يفقد الصبار الأمل أبداً، ضاعف الفلسطينيون جهودهم لحماية بذورهم الأصلية من خلال جمعها وحفظها وتصنيفها وزراعتها وتبادلها بين مجتمعاتهم.
في الواقع، بدأت عسكرة الغذاء في المراحل الأولى من الاستعمار الصهيوني، وفي غزة، تم استخدامه كأداة للقمع قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. في عام 2007، فرضت "إسرائيل" حصاراً على الغذاء، وحددت عدد السعرات الحرارية المصممة لإبقاء الفلسطينيين جائعين بحيث "لا يموتون من الجوع"، وكما ذكر أحد المسؤولين الإسرائيليين، "لإبقاء اقتصاد غزة على حافة الانهيار".
في جميع حروب إسرائيل الوحشية الـ 15 على غزة منذ عام 1947، تم تدمير النظم الغذائية للناس بشكل ممنهج. لكن الهدف هذه المرة ليس أن يجوع الفلسطينيون، بل أن يموتوا من الجوع.
إن جرائم الإبادة البيئية الآن في غزة لم يسبق لها مثيل. فقد أسقطت "إسرائيل" أكثر من 75,000 طن من المتفجرات على المناطق المكتظة بالسكان في غزة، ما يعادل أكثر من خمسة أضعاف القوة التدميرية لقنبلة هيروشيما. وتم تدمير أكثر من 60٪ من القطاع الزراعي بشكل متعمد.
إن استخدام الأسلحة التقليدية والكيميائية، التي يتم تقديمها بعد ذلك على أنها "مثبتة في ساحة المعركة" في الأسواق العالمية، قد دمرت كل جانب من جوانب بيئة غزة، من تلوث المياه والتربة إلى الهواء المليء بالسموم. وكانت خطوط معالجة المياه وإمدادات الطاقة الشمسية من بين أولى الأهداف التي دمرت. وأصبحت المواشي والأغنام أهدافا للقنص، كما كانت انبعاثات الغازات الدفيئة المتولدة خلال الشهرين الأولين من غزو غزة أكبر من البصمة الكربونية السنوية لأكثر من 20 دولة من أكثر دول العالم هشاشة تجاه تغير المناخ.
وفقا لتصنيف الأمن الغذائي (IPC)، يتم تصنيف 95٪ من سكان غزة في أزمات غذائية و30٪ في المرحلة 5 التي تعرف بأنها مجاعة أو كارثة. تسببت هذه الحرب في أشد مجاعة منذ الحرب العالمية، الثانية. 90٪ من الأطفال و95٪ من النساء الحوامل والمرضعات يعانون من فقر غذائي حاد. وقد لجأ الفلسطينيون إلى أكل أوراق الأشجار والعشب وعلف الحيوانات، وأحياناً مزجها بالتربة. النساء أصبحن غير قادرات على ارضاع أطفالهن بسبب سوء التغذية، ويتم إطعام الأطفال المحظوظين، بالحليب الصناعي بمياه ملوثة بمياه الصرف الصحي والسموم ومياه البحر.
وفي الضفة الغربية، كثف الجيش الإسرائيلي والمستوطنون هجماتهم، من خلال قتل المزارعين وإرهابهم، وحرق البساتين والمحاصيل، والماشية، وكل ذلك في الوقت الذي تستمر فيه المستعمرات في التوسع، والاستيلاء على الأراضي والموارد المائية، وإلقاء النفايات الخطرة المدمرة للبيئة. وتكبد محصول الزيتون هذا الموسم خسائراً تزيد عن 22 مليون دولار.
إن جميع الموارد المائية تقع تحت سيطرة المحتل، الذي يسرق أكثر من 80٪ من المياه الجوفية، ويحظر حفر الآبار، ويدمر خزانات حصاد المياه. والمثير للسخرية أنه بينما يسرق مياه نهر الأردن، فإنه يجبر الأردن وفلسطين على شراء مياههما المسروقة بأسعار باهظة.
وعلى الرغم من الصمت الطويل والإفلات من العقاب، فإن ما يثلج الصدر أن نشهد الشجاعة التي أظهرتها صحوة الشعوب في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في فرنسا.
ولننجح اليوم في تحقيق أهدافنا، يجب ألا نهاب من الكشف عن السبب الجذري والدافع الحالي وراء المأساة الفلسطينية: ألا وهو الاستعمار الاستيطاني الأوروبي.
على الرغم من المنافسة الشرسة بين عدد من الدول الأوروبية للسيطرة على المنطقة العربية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، فقد دعموا جميعاً إنشاء المستعمرات الصهيونية المبكرة في فلسطين. واستخدموا مجموعة من التكتيكات للإسراع في الاستيلاء على الأراضي، بما في ذلك إنشاء قنصليات في القدس والمدن الفلسطينية الأخرى، وتهريب الأسلحة إلى المستعمرين، ومنحهم جوازات سفر للتمتع بالإعفاء الضريبي والإفلات من العقاب القضائي. وعلاوة على ذلك، سهلت تسليع الأراضي، وأثقلت كاهل المزارعين العرب بالقروض، ومن ثم استولت على أراضيهم عندما تخلفوا عن السداد.
في عام 1843 أنشأت فرنسا قنصلية في القدس. في عام 1870، رعى ملياردير فرنسي إنشاء 14 مستعمرة، بالإضافة إلى أول مدرسة زراعية استيطانية في فلسطين "ميكفيه إسرائيل". وخلال تلك الفترة، كان الفلسطينيون من بين قادة سوق القطن والبرتقال العالمية، على عكس الادعاءات بأنهم أهملوا الأرض وتسببوا في تصحرها. وبين عامي 1957-1963، أنشأت فرنسا محطة الطاقة النووية الإسرائيلية، والتي كانت اللبنة الأولى والأساسية لإنتاج القنابل النووية الإسرائيلية.
وكجميع الفلسطينيين، نرفض الاستسلام للظلم، ففي عام 2000 أطلقنا حركة المقاومة الخضراء تحت شعار "يقلعون شجرة.. نزرع عشرة". يصادف هذا العام إنجاز زراعة المليون شجرة الثالث التي زرعت في جميع أنحاء فلسطين. في غزة وحدها زرعنا نصف مليون شجرة مثمرة، وبعد كل حرب يشنها الاحتلال، نفذنا مشاريع شاملة لإعادة تأهيل القطاع الزراعي.
في يوم الأرض الفلسطيني هذا العام، أطلقنا أحدث مشاريعنا بعنوان "إحياء مزارع غزة". نهدف من خلاله إلى إعادة تأهيل مزارع الخضروات والبيوت البلاستيكية، وزراعة الأشجار المثمرة، وتزويد أنظمة الري، وتشييد برك المياه وخزانات تجميع المياه، وإحياء مزارع النحل والدواجن، ودعم الصيد البحري.
على مدار الـ 22 عاماً الماضية، قدنا الجهود لفضح الانتهاكات البيئية والزراعية أثناء الصراع والاحتلال في المنابر الحكومية الدولية. وبلغت ذروتها في المبادئ التوجيهية والقرارات التي تتناول مفهوم استخدام الغذاء والبيئة كسلاح، والتي كانت تعتبر تابوهات سياسية قبل ذلك.
وأود أن أختتم حديثي بعدد من التوصيات:
- الضغط من أجل الاعتراف القانوني بالإبادة البيئية كجريمة (على سبيل المثال في المحكمة الجنائية الدولية) ومساءلة المرتكبين جنائياً.
- إجبار "إسرائيل" على الامتثال للقوانين الدولية وأن نولي اهتماماً إضافيا لالتزامات الدول خارج حدودها. نحن فخورون في العربية لحماية الطبيعة بأننا بدأنا وحققنا قرار الاتحاد العالمي لصون الطبيعية IUCN رقم 3.045 الذي يهدف إلى الحفاظ على البيئة في غرب آسيا في سياق النزاعات. كان لهذا القرار دور فعال في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث طالب "إسرائيل" بدفع 856 مليون دولار للبنان كتعويض عن كارثة التسرب النفطي التي تسبب بها عمداً في عام 2006.
- دعم الفلسطينيين لإحياء النظم الغذائية المحلية نحو تحقيق السيادة الغذائية.
- وقف التورط الشديد للمؤسسات الفرنسية في الانتهاكات البيئية وانتهاكات حقوق الإنسان والتوسع الاستيطاني في فلسطين، بما في ذلك الوكالات في قطاعات المالية والبناء والتأمين وصناعة الأسلحة (ولدي قائمة بالشركات التي يمكنني مشاركتها معكم).
- يجب أن نركز على مكافحة التبشير الاستعماري "Indoctrination" في المؤسسات الأكاديمية وكذلك وسائل الإعلام، وإضفاء الطابع المؤسسي على هياكل الحوار والتضامن الحقيقي بين شعوب العالم.
- وأخيراً، علينا أن نكون على دراية بالتكتيك الذي يتلاعب بالمصطلحات ويتجنب تسمية الأشياء بمسمياتها لتعزيز الأجندات السياسية والحفاظ على الوضع الراهن القمعي. إنه ليس صراعاً أو نزاعاً، إنه استعمار واحتلال استيطاني. إنها ليست حرباً أو أزمة، بل إبادة جماعية. لا يوجد خطر وشيك للمجاعة، إنها مجاعة.
في الختام، في الأشهر الستة الماضية، وجدنا أنفسنا جميعاً أمام واحد من خيارين، إما أن نكون جزءاً من المشروع الاستعماري الاستيطاني، أو نقاومه. يسعدني ويشرفني أن أكون هنا اليوم مع أولئك الذين اختاروا المقاومة وستنتشر بذور البطيخ السوداء لتنبت في جميع أنحاء العالم.